السبت، 6 نوفمبر 2010

السياحة في اليابان الانضباط والابهار ! | Tourism in Japan

صور اليابان عندما ذهبت لأصرف عملة اجنبية، سألتني موظفة البنك عن وجهة سفري، فأجبتها: سأقوم برحلة سياحية الى اليابان، فعقبت بابتسامتها الجذابة «سمعت انها بلد رائع ذو مبان مميزة وحدائق جميلة»، واكملت «لكني سأنتظر انطباعك عنه، فقد أقرر زيارته مستقبلا».
لا شك في ان اليابان بلد يثير فضول الكثيرين للتعرف عليه، فأردت هنا ان انقل مشاهداتي وانطباعي عن اليابان بعد زيارتها كسائحة في اكتوبر الماضي.
جولتنا في اليابان كانت لمدة 9 ايام، بدأناها من العاصمة طوكيو ثم مدن كيوتو وأوساكا وناغازاكي كانت مسك ختام رحلة قيمة جدا، استطيع ان أعدد ما زرناه من معابد قديمة لديانتي الشنتو والبوذية وأصف الحدائق الجميلة والقلاع العظيمة التي تجولنا فيها، وقد اذكر برج طوكيو الشبيه ببرج إيفل وشبكة المواصلات المتقنة ما بين جسور معلقة وانفاق تحت البحر وقطارات سريعة تنقل الياباني بين جزر بلاده ذات الثلاثة آلاف بسهولة ويسر.
لكن، اكثر ما اثار اعجابي ويستحق الاشارة اليه هو تاريخ اليابان، لذا اسمح لي عزيزي القارئ بان تكون جولتنا في اليابان برؤية تاريخية حتى استطيع نقل انطباعي كاملا عن هذا البلد، وسنبدأ جولتنا من ناغازاكي.

ناغازاكي برتغالية!

ناغازاكي تقع على ساحل جزيرة كيوشو الغربي، وهي اقرب الاراضي اليابانية الى البر الآسيوي. لذا، فهي نافذة اليابان التي أطلت منها على العالم. البرتغاليون هم من أنشأوا ناغازاكي في القرن الـ16 فأصبحت البوابة الامامية التي دخل منها الصينيون والكوريون والأوروبيون للتجارة، ولكن الأوروبيين بدأوا بالتبشير للمسيحية فكان ذلك اول التحديات التي واجهتها اليابان. فالمسيحية تعتمد مبادئ السلام والمحبة والتسامح التي تتناقض مع ما كان يسود المجتمع الياباني من تقاليد اجتماعية صارمة تفرضها ديانتا الشنتو والبوذية كخضوع الشعب التام لزعماء الطبقة الحاكمة.
كما كانت للغرب محاولات لنشر قيمه، كالليبرالية والديموقراطية ونشر مفهوم المساواة بين الحاكم والمحكوم. ذلك ما اثار حكام اليابان وذوي السلطة، فهذه قيم قد تجردهم من قوتهم امام الشعب، فقام الشوغون (النظام الإقطاعي للساموراي) بالاستيلاء على السلطة وفرض عزلة على البلاد منذ 1637 دامت لاكثر من 200 سنة عاش اليابانيون خلالها في عزلة تامة عن العالم الخارجي، مما سهل مهمة الشوغون موقع اليابان في اعماق المحيط الذي يوفر عزلة طبيعية عن البر القاري.
وقد زرنا قلعة نيجو بالقرب من كيوتو مقر اقامة مؤسس الايدو شوغون (الحاكم العسكري في فترة العزلة) وهي الآن من التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو وعند تجولنا في محل اقامة الشوغون راعنا الترف الزائد باستخدام رقائق الذهب على الجدران والابواب ودقة النحت على الخشب المستخدم على الابواب وجمال اللوحات المرسومة على الجدران، وكلها لغرض ابهار الزائر وللدلالة على قوة الشوغون وثروتهم.

تدرج الفخامة

ان تصميم المقر يعكس طبقات المجتمع السائدة في ذلك الوقت، فغرف استقبال الزوار تتدرج في الفخامة -وفق طبقة الضيوف- وكان الساموراي على رأس طبقات المجتمع هذه الفترة. ومما هو لافت وقع الاقدام على الأرض عند المشي في الممرات، حيث يتم وضع مسامير تحت الارضية حتى تصدر اصواتا عند السير عليها كجرس انذار للحماية من الاعداء.

الفنون

صور اليابانكما يعرف عن الشوغون اهتمامهم بالفنون وتشجعيها، فظهر العديد من فنون الرسم، مثل اوكيواه، وهي نحت الرسومات على ألواح خشبية ثم تطبع على الورق، ومن اهم المواضيع في الفن الياباني جبل فوجي اعلى قمة في اليابان، حيث يبلغ ارتفاعه 3776م. ومن اشهر الاعمال التي صورت فوجي، لوحات مشاهد جبل فوجي الستة والثلاثون التي رسمها الفنان هوكاسي يصور فيها الجبل في عدة حالات مناخية في مختلف الازمنة ومن مختلف الاماكن، واشهر هذه اللوحات لوحة الموجة الكبيرة الموجودة حاليا في عدة متاحف من ضمنها متحف المترو بوليتان في نيويورك.

رمز اليابان

فوجي جبل بركاني كان آخر نشاط له في 1707، كما انه رمز لليابان. ولقد توجهنا الى منتزه هاكون الوطني لمشاهدته، حيث يقع هذا المنتزه اسفل الجبل ويزوره ما يقارب 100 مليون سائح سنويا.
لقد استمتعنا بيوم جميل هناك، فإلى جانب فوجي الساحر يوجد وادي الغليان الكبير اسفل الجبل ويحوي ينابيع المياه الساخنة. وقد اقيمت هناك محطات البيض الاسود لاطالة العمر فاختراعات اليابانيين ليس لها حدود. في هذه المحطة يسلق البيض في مياه الينابيع الساخنة فيتفاعل الكبريت الموجود في المياه مع قشرة البيض فيصبح لون القشرة اسود الا ان المحتوى الداخلي له مذاق لذيذ.

إطالة العمر

وحسب الاسطورة فإن تناول بيضة سوداء تطيل العمر 7 سنوات. اقبلنا جميعا لتناول البيض الاسود الا انني لم ار اي ياباني يأكل من البيض الاسود! ولكي تستمتع بإطلالة جبل فوجي لا بد من اخذ جولة بحرية في بحيرة اشي وهي بحيرة بركانية تشكلت قبل 3000 سنة، واخترنا سفينة صممت على طراز سفن القراصنة مما اضاف على الرحلة بعض الطرافة. وعند عبور البحيرة يطل عليك فوجي من مختلف الجهات بهدوئه الرومانسي على ضفاف بحيرة اشي الساكنة فتحس بتناغم الطبيعة وجمال الكون.

سرداق ذهبي

إن اهتمام الشوغون خلال فترة العزلة بالعمارة تجسد حيا امامنا عند زيارتنا لمعبد زن بالقرب من كيوتو، فرأينا السرادق الذهبي الذي شيد لاقامة احد الشوغونات في سنة 1373م ثم حول الى معبد بوذي. وقد وضعت رقائق من الذهب على جدرانه، ومن هنا جاءت التسمية. وقد صادف وقت زيارتنا للمعبد هطول امطار خفيفة مما اعطى المكان رقة وفخامة وزاد من عمق اصفرار لون ذهب الجدران فكان تحفة معمارية حقيقة نادرة.

محطة التجار

صور الطبيعة في اليابان خلال فترة العزلة التي فرضها الشوغون كانت جزيرة دشيما في ناغازاكي المكان الوحيد الذي سمح للتجار البرتغاليين والهولنديين بالدخول اليه، فكان محطة لاقامة التجار، وقد كانت لنا وقفة قصيرة في هذه الجزيرة التي تحوي بعض المساكن القديمة التي بنيت على الطراز الاوروبي. ولن انسى مذاق كعكة الكاستيلا الاسفنجية الذائعة الصيت التي جلبها البرتغاليون معهم منذ القرن السادس عشر ومازالت تحظى بشعبية كبيرة في ناغازاكي. فما اروع الجلوس في مقهى وتناول الكاستيلا مع القهوة.

السفن التجارية

لقد طالت فترة العزلة التي فرضها الشوغون على اليابان لاكثر من 200 عام فزادت من تماسك اليابانيين على ارضهم، وتعززت وحدة البلاد. لذا فشلت كل المحاولات الاوروبية لكسر طوق العزلة، الا انه في سنة 1854 جاء العميد البحري الاميركي ماثيو ببري ورسا بأسطوله قبالة السواحل اليابانية ليجبر اليابانيين على فتح موانئهم امام العالم، فبالنسبة للولايات المتحدة تعتبر اليابان محطة مهمة لتوقف السفن الاميركية التي تبحر من السواحل الغربية الاميركية باتجاه آسيا. كما ان ناغازاكي كانت مركزا لتصدير الفحم الحجري الذي كان مصدر الطاقة الرئيسية في ذلك الوقت. لقد اصر العميد ببري على ان يتضمن اسطوله 4 سفن بخارية حتى يرهب اليابانيين الذين اعتادوا على السفن الشراعية. فما ان رأى اليابانيون هذه السفن حتى انبهروا واعتقدوا أنها تنين ضخم تعلوه أعمدة الدخان، وعرف اليابانيون انهم ليسوا بموقع المقاومة، فقد صدموا بأعداد وأحجام المدافع على سطح السفن، ففتحت اليابان موانئها للعالم ولكن بحدود، إلا ان احتكاك اليابانيين بالعالم مجددا أشعرهم بالخجل أمام التقدم العالمي، فشعروا بالعار، وفضلوا الانفتاح الكلي على العالم الخارجي، مما عجل من نهاية فترة عزلة الشوغون ليبدأ عهد الاصلاح بقيادة الامبراطور ميجي في 1868م. ويعتبر اليابانيون بفضل العميد ماثيو ببري في انهاء فترة العزلة، لذا ما زالوا يحتفلون بما يسمى بذكرى عيد السفن السوداء نسبة إلى سفن اسطول ببري البخارية.

الإصلاحات

إصلاح ميجي شمل كل المجالات في الدولة، فأقيمت صناعة حديثة، كما أدخلت اصلاحات لتحسين الزراعة والتجارة. وتضمن الاصلاح الغاء الطبقية الاجتماعية، وأصبح التعليم حقا لجميع المواطنين. لقد تم الاصلاح مع الاحتفاظ بالروح اليابانية التقليدية القائمة على الشجاعة والفضيلة وقدسية الإنسان وحب الوطن إلى درجة التضحية بكل شيء من أجله وتم رفع شعار «التقنية الغربية والروح اليابانية».

حربان عالميتان

لقد استطاع الإمبراطور ميجي في فترة الاصلاح سنة 1868ــ1912 أن يجعل اليابان دولة تنافس دول العالم صناعيا واقتصاديا، كما جعل اليابان تواكب النمو الغربي في القوى العسكرية فأعطى أولويات للجيش لمواجهة الامبريالية الاميركية مما فرض على اليابان الدخول في صراع الحربين العالميتين لتنهي الولايات المتحدة الأميركية هذا الصراع بإسقاط القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي.
وقد تجولنا في ناغازاكي، ثاني وآخر مدينة في العالم تتعرض للقنبلة النووية، كان ذلك في التاسع من أغسطس سنة 1945 عند الساعة الحادية عشرة ودقيقتين صباحا، حيث أسقطت ثاني قنبلة نووية على ضاحية أوروكامي في مدينة ناغازاكي فقتلت وجرحت حوالي 150000 نسمة، زرنا فيها متحف القنبلة النووية الذي يروي قصة المدينة متضمنا أحداث ما قبل سقوط القنبلة والدمار الذي لحق بالمدينة وإعادة بنائها. كما يحوي المتحف تاريخ تطوير الأسلحة النووية ودعوة للسلام ولعالم خالٍ من الأسلحة. وبعد مشاهدة حجم الدمار الذي لحق بهذه المدينة لا نملك إلا أن نقف احتراما وتقديرا لقوة وعزيمة أهل مدينة ناغازاكي فقد انتشلوا مدينتهم من تحت الرماد النووي ليعيدوا إعمارها، ولتكون رمزاً للسلام العالمي.

ساحة انفجار القنبلة النووية

ولا بد أن تتضمن الجولة زيارة ساحة السلام التي أقيمت عند نقطة على الأرض تقع عند مركز انفجار القنبلة النووية، وتصادف أن يكون موقع سجن ناغازاكي، فرأينا بقايا جدار السجن. ولكثير من دول العالم نصب تذكارية تعبر عن تعاطفها مع ضحايا القنبلة النووية. وفي نهاية الساحة يقع تمثال السلام بارتفاع 10 أمتار يرفع يده اليمنى محذراً من خطورة الأسلحة النووية، ويمد يده اليسرى متمنياً ان يسود العالم سلام دائم، وبعيون مغلقة يصلي على أرواح ضحايا القنبلة النووية. لقد نجحت نافورة السلام بتخليد ذكرى الطفلة التي كانت تجري بحثاً عن الماء، فعند الوقوف أمام النافورة لا بد أن تمر بلحظة حزن عند استذكار معاناة الطفلة. لقد كتب اليابانيون في ساحة السلام لن نسمح أن تتكرر هذه المأساة. فكانت بداية عصر جديد حين منع التسلح في البلاد ليتفرغ الشعب لبناء يابان جديدة.

طقوس الشنتو

زرنا معبد ميجي لديانة الشنتو بالقرب من طوكيو، فقد أقام اليابانيون هذا المعبد الذي كان يضم ضريح الامبراطور ميجي وزوجته شوكن تخليدا لذكرى أكثر الشخصيات تأثيرا في تاريخ اليابان. والمعبد يقع في حديقة كان الامبراطور يزروها بانتظام، وتحتوي على 120000 شجرة دائمة الخضرة من أكثر من 365 نوعا تم التبرع بها من قبل المواطنين من كل أنحاء اليابان. وتمارس هنا طقوس الشنتو (عبادة أرواح الآلهة) وهي الديانة اليابانية التقليدية الأولى في البلاد، ومن معتقداتها ان الحياة والموت دورة تطور طبيعية وليس هناك تصادم بين الخير والشر. ويزور الياباني المعبد بانتظام للصلاة وطلبا للتعاويذ لمختلف المناسبات كالنجاح في الامتحانات والسلامة في الطرق. وقد كنا محظوظين فشهدنا موكب زفاف، حيث ارتدى العروسان الملابس اليابانية التقليدية يتقدمهما الكاهن. أخبرتنا مرشدتنا السياحية ان اليابانيين يحبون الحياة ويأخذون أمور الدين ببساطة فهم يمارسون طقوس الشنتو أوقات المناسبات السعيدة كالزواج، وحيث ان هذه الديانة قائمة على الخلود فطقوس الجنازة تمارس حسب الديانة البوذية في المعبد البوذي، كما أضافت بابتسامة عريضة ان اليابانيين لا يمانعون بالتحول إلى المسيحية فترة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية للاستمتاع بالاحتفالات.

فتيات الجيشا

في ليلتنا الأخيرة في اليابان سعدنا بحضور أوبرا مصغرة للتحفة العالمية أوبرا مدام بترفلاي من تأليف الإيطالي بوشيني في 1904 وهي أوبرا مستوحاة أحداثها عن قصة واقعية حدثت في ناغازاكي. تحكي قصة فتاة من الجيشا والجدير بالذكر ان فتيات الجيشا لسن عاهرات كما هو متعارف عليه، ولكنهن فتيات حصلن على تدريب عالمي في فن الغناء والرقص، ويتقن أصول التقاليد اليابانية في تقديم الشاي والمشاركة في حديث ظريف للترفيه عن الرجال في حفلات العشاء غالباً، وقد وصل عددهن إلى 80000 في سنة 1928 ولكن الإقبال الآن قل على هذه المهنة، فأصبح عدد الجيشا حوالى 1000 فتاة فقط. تعتبر كيوتو مركز فتيات الجيشا في العالم، وقد تجولنا في أحياء الجيشا وسط كيوتو، حيث الشوارع الضيقة وبيوت الجيشا الخشبية التقليدية. وزرنا أحد البيوت حيث إن كثيرا من هذه البيوت حولت إلى مراكز سياحية للتعريف بالكتابة اليابانية، وتعليم تنسيق الزهور وطريقة لبس الكيمونو.
مدام بترفلاي بطلة الأوبرا هي فتاة جيشا أحبت جنديا أميركيا، ولكن المجتمع المتزمت يرفض زواجها لاختلاف الدين. بترفلاي تضحي من أجل حبيبها الأميركي، فتغير دينها لتتزوجه ولتمضي معه حياة سعيدة، كما تمنتها إلا أنه يتركها ويرجع إلى وطنه ويتزوج شابة أميركية.
تخلص بترفلاي للأميركي ولكنه عندما يعود بعد 3 سنوات وتكتشف خيانته لا تتحمل الغدر فتنتحر على الطريقة اليابانية الهاراكيري (قطع الأحشاء) لتختار الموت حفظاً لكرامتها. ما يعجبني في هذه القصة انها ترمز إلى تاريخ اليابان في جزئها الأول، ولكن عندما أسقط الأميركان القنبلة الذرية لم تنتحر اليابان، بل انتشلها شعبها من تحت الرماد وحملوها على أكتافهم لإعمارها وإعلاء شأنها.

بقلم: د. نزيلة يوسف

0 التعليقات:

إرسال تعليق