الأربعاء، 5 يناير 2011

مدينة جبيل اللبنانية – سياحة وسفر

سياحة وسفر لبنان .

الميناء جمال آخر في المدينةيختلف الجلوس في المقاهي اللبنانية عن غيرها من المقاهي، فالغرسون فيها يقرأ الزبون من أول نظرة، ويعرف ما يفكر فيه قبل أن يتحدث معه، كنت جالسا في أحد مقاهي بيروت الجانبية البعيدة عن الأنظار.. جاءني الغرسون ليأخذ طلبي وبعد أن عاد همس لي بذوق رفيع وهو يصب قهوتي في الفنجان: «أعتقد أنك تبحث عن شيء جديد في لبنان، هل زرت مدينة جبيل؟»، ثم أشار لي باتجاه الشمال، وقال انها تقع بعد شاطئ جونيه الجميل، ووضع قهوتي على الطاولة واستأذن بنفس الذوق الرفيع الذي قدم به.
ابتسمت عندما سمعت اسم جبيل، فنحن في الخليج نعرفها مدينة في السعودية، أما في لبنان فهي جديدة علينا، هذه الصدفة حمستني لزيارتها، لم يكن الوصول الى مدينة جبيل صعبا، فالتاكسي في لبنان يوصلك الى كل مكان، اخترت رجلا مسنا لكي يسرد لي تاريخ المنطقة والأحداث التاريخية والعصرية التي مرت بها طوال الطريق، لأنني أعلم أن الشباب لن يتحدثوا مع الزبون الا عن هيفاء وهبي أو محمد حماقي، أما التاريخ فلا يعرف قيمته الا من عاشه، ساعة ونصف مرت علي في الطريق الى جبيل كأنها لحظات.. كان أبو جودت ــ 60 سنة ــ سائق التاكسي يتميز بأسلوب قصصي جذاب، سرد لي كل الأحداث وحكى لي تاريخ المنطقة صوتا وصورة وكأنني أشاهد فيلما سينمائيا، كان يتحدث بشوق كبير وكأنه تاريخ صنعه هو بنفسه.
كان الطريق جميلا.. بدأ من بيروت باتجاه جونية في الشمال، بعد ربع ساعة تقريبا توقف أبوجودت وأشار الى البحر وقال «هيدا (هذا) المنتجع كتير حلو، عبارة عن شاليهات خمس نجوم يتبع الفورسيزن، ما بيعرفوه الخليجيين وما بييجو هون لهلق» - ويعني الى الآن- تابع سيره على الطريق السريع، ثم أشار بيده مرة أخرى الى منطقة أخرى وقال «وهيدا اده ساند.. شاطئ كتير بيجنن ما بتعرفوه كمان»، وتابع سيره الى أن وصلنا الى الجبيل، مدينة عامرة بالعمارات العالية، لم يتوقف أبوجودت وسط هذا العمران، بل تجاوزه الى أن توقف على الشاطئ أمام فندق صغير قديم ولكنه جميل.
هدوء ورومانسية وجمالكانت الحياة في المدينة هادئة الى حد كبير، لم ألاحظ فيها أي حركة تدل على أنها مدينة سياحية من الدرجة الأولى، كما قال لي أبو جودت والغرسون في المقهى، دخلت الفندق فاستقبلتني موظفة الاستقبال بطريقة جيدة، وقدمت لي عصير برتقال طازجا.. اللبنانيون يعرفون كيف يسوقون لبلدهم بطريقة محترفة، كانت الموظفة سمينة جدا الى درجة أنها لم تكن تستطيع أن تتحرك من مقعدها الى طابعة الكمبيوتر، فاضطررت الى أن أدخل خلف طاولة الاستقبال لكي أتسلم ورقة الدخول وكرت الباب، دخلت غرفتي الصغيرة الأنيقة النظيفة جدا، ووقفت في الشرفة المطلة على البحر.. هنا أدركت سر هذه المدينة وسر حب الناس لها، انها درة البحر الأبيض المتوسط، هواؤها عليل والمنظر المطل من شرفة الفندق هو في حد ذاته سياحة رائعة.
شواء لذيذ
فضلت أن أخرج من الفندق وأتجول في المدينة لكي أتعرف عليها منذ البداية، فالحياة عبارة عن مجهول يجب أن تتعرف عليه والسياحة علم معرفة المجهول من الأماكن والتعرف على العالم حولك، جذبني الهواء العليل القادم من البحر لأتوجه إليه مباشرة، لم أنتظر أكثر من دقائق معدودة لأتخذ قرار السير على قدميّ مباشرة إلى المارينا، هناك كان الوضع مختلفا تماما عن وسط المدينة، المطاعم ممتلئة بروادها.. والمقاعد الجميلة الملونة تزين الواجهة البحرية، أعجبني المنظر كثيرا.. خاصة أن رائحة الشواء اللبناني اللذيذ الشهير في فترة الغداء يجبر السائح والمار في الطريق على دخول أقرب مطعم والسير خلف رائحة الشواء كالمسحور، كانت المفاجأة في انتظاري غير بعيدة.. هذه الرائحة لم تكن تصدر إلا من مطعم واحد فقط، ولا توجد فيه مقاعد فارغة، أما المطاعم الأخرى التي تملأ المكان فكانت كلها إيطالية أو أميركية، علي إذن أن أتغدى ستيك أو بيتزا! ياحلاوة المشويات اللبنانية مع التبولة، ولكن لا يوجد مكان فاضطررت إلى أن أحجز لي طاولة للعشاء، فالجلوس على المارينا أمام اليخوت الجميلة لا يفوت.
الرجل المسن
بعد الغداء الإيطالي لابد من شرب القهوة التركية اللذيذة، كانت طاولتي قريبة جدا من طاولة رجل مسن أنيق جدا، استأذنته بأن أشرب قهوتي معه على طاولته، ولكن على حسابي فرحب بي، كان الجلوس معه أشبه برحلة في تاريخ المدينة التي كانت تسمى في السابق بيبلوس أو قراءة في تاريخها العريق، كان صوت هذا الرجل المسن الأنيق أشبه بموسيقى قديمة خرجت من قيثارة تراثية تعيش في كتب التاريخ تحكي قصة أناس بنوا هذه المدينة وتركوها هدية لمن يأتي بعدهم، جمال البحر وهدوؤه وروعته هنا شيء مختلف، كأنه بساط سحري يحملنا على ظهره ويطوف بنا أجواء رومانسية حالمة وسط موسيقى هادئة من صوت البحر وهدير أمواجه المسالمة على جوانب اليخوت الواقفة بأمان على المارينا.
يتميز أهل جبيل اللبنانية بهدوئهم مع ابتسامة تزين وجوههم البيضاء المشربة حمرة، طوال البنية على عكس ما توقعت، فأهل البحر نادرا ما يكونون بهذا الطول، كما أنهم خليط عجيب من كل أديان العالم، ويحبون الغرباء ويأنسون بوجودهم، وكرماء الى أبعد الحدود ويتحدثون اللغات العربية والفرنسية والانكليزية، يشربون الشاي أكثر من القهوة ولا يتحدثون في السياسة الا قليلا، ويحبون الشواء البحري بطريقة جنونية، لكنهم بدأوا يفضلون الطعام الايطالي أكثر من أي شيء آخر.
المدينة القديمة
الصباح الباكر في السوق القديمخيّم المساء علينا، وأنا أتحدث مع الرجل المسن عن بيبلوس وتاريخها وأهلها الطيبين، خرجت من عنده، متوجها الى المدينة القديمة وسوقها التراثي، كما قال لي، ركبت التاكسي مع أن المسافة قصيرة، لكن الحديث مع سائق التاكسي يعطي معلومات جيدة، وصلت الى المدينة القديمة مع غروب الشمس، ابتسم لي سائق التاكسي عندما نزلت، وقال: «هذا أجمل وقت ممكن تزور فيها المدينة القديمة»، تقع هذه المدينة عند مدخل المدينة بالقرب من الطريق السريع، تحتوي على تاريخ عريق لمدينة كانت حضارة قديمة لا تزال آثارها باقية الى اليوم.
اعتقدت في البداية أني سأكون وحدي في هذا المكان، لأنني قدمت في الليل، ولم أتوقع أن الناس يأتون الى الآثار في الليل، لكنني كنت مخطئا.. فهذه المدينة تختلف عن بقية المدن القديمة، لم أر مثلها الا في مدينة أنتاليا التركية، هي عبارة عن مجموعة من المباني والقصور والدكاكين القديمة.. جددتها البلدية لتكون مكانا سياحيا من الدرجة الأولى.
كان عدد السياح فيها يفوق عدد السياح في الآثار المصرية في الأقصر، المدينة عبارة عن مجموعة من المنازل اللبنانية القديمة أعيد ترميمها لتصبح مطاعم ومتاحف وفنادق، وفي الأمام تقع مجموعة من الآثار القديمة.. وبينها طرق جديدة معبدة بطريقة تراثية، تملأ هذه الطرق مقاه كثيرة تشاهد دخان الشيشة والأرجيلة من بعيد، وفي وسط المدينة يقع السوق القديم، يعتبر من أقدم الأسواق في لبنان والمنطقة كلها، يقول بعض أهل المنطقة ان عمره يتجاوز عمر المسيح.
السوق التراثي
دخلت المدينة وتجولت فيها وسط ضجيج السياح ودخان الشيشة وصوت فيروز المميز، بحثت لي عن مقعد في كل المقاهي الموجودة في المدينة القديمة، فلم أجد لي كرسيا واحدا، فاضطررت الى أن أتجول في السوق القديم.. وأتسوق فيه، انها فرصة لمشاهدته والتعرف على أهله، يباع فيه ثياب تراثية نسائية ورجالية وتذكارات من المدينة وعطورات نادرة، قضيت وقتا ممتعا فيه، خاصة مع الباعة الظرفاء الذين يتعاملون مع السياح بأسلوب راق ومهني الى أبعد الحدود، ومن أطرف ما يبيعونه هناك الصوت الجميل! يطلب السياح الأجانب منهم أن يغنوا لهم بأصواتهم الجبلية مواويل تراثية مقابل مبلغ من المال، مضى الوقت سريعا، خاصة عندما نجحت في الحصول على طاولة في أحد المقاهي، السياح هنا يقضون الوقت في لعبة الزهر حتى ان أصواتهم ترتفع مع مرور الوقت.
متحف الشمع
لم يكن لدي برنامج معين في صباح اليوم التالي، كنت أفكر في زيارة البحر والجلوس على الشاطئ، لكن الموظفة السمينة جدا قدمت لي «بروشورا» يحتوي على كل المتاحف الموجودة في المدينة، ولأنني من عشاق زيارة المتاحف ومحلات بيع اللوحات الفنية كان برنامجي في اليوم الأخير في الجبيل زيارة كل المتاحف الموجودة فيها، كان أكثرها شهرة متحف الشمع الذي يقع بالقرب من الكنيسة القديمة، عبارة عن بيت تراثي حوّله ملاكه الى متحف للشمع، وبعده في الشهرة المتحف التراثي القديم.. انه رائعة من روائع التاريخ في العالم العربي.. لا أعلم كيف يجهل السياح العرب، خاصة من يحبون لبنان زيارة مثل هذا المتحف، قضيت فيه ساعة كاملة لم أر فيه خليجيا واحدا، مع الأسف الشديد، مع أن مقاهي بيروت كانت ممتلئة بهم قبل أن آتي الى الجبيل!
مضى النهار علي وأنا أتجول في متاحف المدينة الى أن حانت ساعة الغداء.. توجهت الى الشاطئ، فالمكان هناك أجمل لتناول وجبة دسمة، خاصة مع موسيقى صوت طيور النورس وأمواج البحر التي لم تتعب من الحركة، لفتت نظري كثرة صيادي السمك على الشاطئ، كل منهم يمسك صنارته بيده ويقف على شاطئ البحر، قال لي الجرسون انها عادة أهل الجبيل منذ أقدم العصور، قبل آلاف السنين وهذه العادة لم تنقطع.. حتى أيام الحرب الأهلية كان هذا المكان آمنا والصيادون يمارسون هذه الهواية بكل راحة، والشمس تنظر اليهم وكأنها تنتظر وقوفهم أمامها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق